Skip to main content

خط الزمن

خط الزمن

هذه همساتي، أخطها لك كلمات فاسمعها بأذن عقلك. لا أدري إلى أين تأخذني خواطري، فأنا لا أدري إلى أي مدى هي عميقة دواخلي. أسبر غياباتها بشمعة وأقرأ على جدرانها، وتأخذني دهاليزها في غياهب يعلم الله إلى أين. إن شئت قرأت، فستضحك قليلا، وقد تبكي، أو تسخر أيضا، لكن الأهم، سأحاول، أن تعلم.



المستقبل الحاضر في الماضي

جلس على شرفة بيته المتهالك يهامس النجوم الساكنة في حلكة سماء صافية على غير عادتها في ليلة شتاء قارس، كأس شاي فقدت دفئها في يمينه تغازل شماله المتدللة على حافة الكرسي الأزلي الذي رافقه في حله وترحاله، وتترامى إلى مسمعه موسيقى اللاونج المفضلة لديه في أحسن أماسيه.

لم يكن يعد النجوم، بل كان يغازل تلك النجمة القاصية على قمة برج الأسد. نجمة تعرف إليها وأحبها مذ كان في العشرين، وأعطاها من الأسماء بعدد من عرف في صباه من النساء، حتى بات أكيدا لديه أنها ليست أيا منهن، بل هي هو لا غيره، تنتشي بحلة ما في قلبه من ألوان. فتارة هي بسواد شعر هذه أو ببياض وجه تلك، وتارة هي بحمرة المريخ إذا تجهمت الأيام في وجهه، وتارة هي تتلألأ راقصة إن سره خبر أو تتباهى معه إن هو اختال بما أحدث أو بنى.

تذكر طفولته حين كان يختلي في إحدى غرفتي المنزل الذي ترعرع فيه بالهارمونيكا التي أهدته أمه الحنون العيد الماضي، مخرسا الأضواء، ليبعث بدلها لحنا عشوائيا لا تتكرر فيه نوتة مرتين، قصيدة لا يفهمها سواه. كان يبث إليها شكوى من حياة لم يعشها آنذاك بعد. أتراه رأى بعين باطنه ما هو آت؟ كان أصغر من أن يجيب عن السؤال، ولا زال.

نسمة هواء باردة لفحت مقلة عينه المفتوحة منذ هنيهة، فأجبرته على أن يطرف بقوة، قاطعت مناجاته لصاحبته، لنفسه، ليفيق وقد أقام بعض البعوض مأدبته الأزلية على دمه، حتى كان يخال إليه مرات أن دمه حلو المذاق، فحذته الخاطرة لما كان الفضول سيده إلى لعق جروحه، وفاجأه أن لدمه طعما يتغير كل يوم، بل كان يستلذ بتلك اللذعة على لسانه.
(الخاطرة تأخذني إلى أبعد من ذلك: أدمن صاحبنا لعق جراحه خلف الأبواب الموصدة، وغدا ينادي العالم إن أدبر بأنغام أفكاره. وهو نفسه من بدأ رحلته حول العالم خارجه من مداخل عروقه.)

بعد أن لوح بيده حوله مدعياً نهر البعوضات المحتفلة حوله، تلفت إلى يمينه لينظر إلى تلك الأوراق الغافية على الكرسي جانبه، وأطرافها ترفرف بضعف تحت وزن الهاتف النقال الذي كان ينوب عنه في صرف بعض من أقلقهم غيابه عن مجالسهم. لم يكترث كثيرا، فضل إطالة عزلته قليلا كونه يعلم أن أحبابه لن يلقوا عليه أكثر من عتاب سيذوب في حرارة اللقاء قريباً. تململ ليعتدل في جلسته وقد شكا ظهره طول مكوثه تحت وزنه على كرسيه العزيز؛ سحب قدميه من صندل الجلد الذي كان هديته منذ سنين في رحلة قصيرة إلى مراكش. تجنب كعادته الطفولية أن يدوس الغبار بقدمه الحافية، مد ساقيه ليلفهما على بعض فوق حافة شرفته، فغدت قدماه إطارا لما كان يتأمل فيه. لم تكن أرض الحقيقة أمامه حقولا من اللامنتهى، لكن بنات فكره كانت قد صارت على صهوات خيولها الجامحة في فضاء ليس له أفق ولا أرض ولا سماء. كان عالمه أوسع من المنتهى، وأفقه يمتد لما بعد الأفق. من ذلك أن بصر خياله أخذه إلى التأمل في قدميه، واسترجاع ذكريات أحاسيسها لكل أرض وطأت، وكل مركب اعتلت، وكل شبر مشَت.
فرّج ما بين أصابعها ليبتسم وهو يرى ما فيها من الشبه مع حبات الفول السوداني!!! راقته الفكرة فأمعن النظر، وأعاد تذكر النكت التي أُبدعت والقصص التي حيكت عن أصابع قدميه!! أدفأت القهقهة صدره، فقرب كأسه إلى شفتيه متناسيا برودته، لأن أوراق النعناع شفعت بطعمها للسائل الذهبي، فغفر له وضمه إلى أحشائه يمده من دفئه ويمده هو من خلاصة رحلته عبر الهند والصين وأرض المغرب العظيم.

تذكر أن يتنهد... أن يفجر من صدره زفرة أحزنت النسمات... الشاي الذهبي بهت لونه منذ عقود، والفول السوداني نخرته السنون، وبنات أفكاره بالأجر اليومي...

يتبخر كل شيء مع اللفحات... زمهرير يخفر الرمضاء، سكون يغطي الأزيز.. برود يتقنع به الغضب..

ارتفعت قهقهاته لرؤية ما صنعته بنات فكره... فبنات فكره ليلا عندما تعود إليه تلهو كثيرا.. تلهو كلهو مأجوج. فترفع سهامها تالي الأمر إلى رأسه لتوجعه بالنقرات...

تأوه بعد الزفرات، وتلوى فكره على الاسفلت.
تمنى أن ينزف لعله يخط بضع سطور، لكن العروق جفت منذ أعوام. تمنى أن تنطلق قيود أوتاره فيصدح مدحاً أو هجاءً أو أطلالًا، لكنه علم أن لا أوتار لمن تنادي. فآثر الصمت.

الدنيا حلوة. ولعلها تتحلى لتحلو أكثر. الدنيا لمن يدفع أكثر. ادفع ترقص، وتضحك، وتدنو، وتتدنى.. وتلاعبك حتى إذا استأنست بها زادت أجرها! ولك أن تدفع أو تمنع، فغيرك كثر.

تجافى أخيراً عن عرشه الخشبي، رسم خطوات سريعة إلى مرسمه، أوصد الباب، أطلق العنان، أرقص ريشته على ثوب لوحة زفّها عروساً لفارس خياله الجامح. لطخ بياضه الناصع ببحر أحمر تتلاطم أمواجه على شاطئ غابة مسحورة، أشجارها أقلام، وقصصها أفلام، أصواتها أنغام، وحوشها سنافر، وطيورها دناصر، وغيلانها أقزام.
أشباحها ظلال أصدقاء قدامى وأصدقاء لم يوجدوا بعد، ورفاق ذوي حاجة، وأخيار قضوا حاجات.

أبطال غابته يمشون، يهرولون، يركضون، يقفزون، وهم مطأطئو الهامات للأقدار، يرسمون على خطوطها سطور الحياة..

تأمل فيهم من علٍ،

أغابة هي أم محيط؟ أرض أم سماء؟ ألها حدود أم الحدود هي ما نرى؟ أآلزمن حدُّها أم المدى؟ أما آن الأوان ليعرف وقد اشتعل رأسه شيبا؟

الربيع أتى، بعد الخريف بأزل. وعند الربيع تعرف القومَ السُّرى.

يعلم أنه كما يكتب الأضداد يجمعها، وأنه أضداد، وأنه لولا الأضداد ما عُرف.

له اليوم من السنين ألفٌ، لكن قلبه مراهق، وفكره مشاغب، وعقله مسكون بطفل كبير.

وكما يعلم، يحلُم.

بالألف ليلة، ويسأل لماذا الليلة الأخرى.

وإذا أُخرج من الحلم لا يلبث يعود إليه لاهثا يسكن إليه، يرتمي في أحضانه باحثاً عن عالمه الخيالي.



دون كيشوت
أحببت ذلك المجنون! أليس يشبهني؟؟


الآخر

تلفت حوله يبحث عن رفاقه الذين ألفهم، فلم يجد غير خيالات باهتة هزيلة، استبدلتها السنين بخيانات لم يعرفها.
تذكر كم مرة سمع أنه طيب لحد الغباء، وأنه في كل مرة كان يجيب: "فليكن".
فليكن؟ كلمة وراءها ما وراءها من الاعتداد بالغير، والاعتماد على الخير، الذي يتخيله في كل وجه مرآة لما يبطنه هو للناس. لم يستوعب عقله الغبي أن زمن الخير فات، وأن كل خيّر مات، ودفن، ولم يصلّ عليه. لم يلاحظ أنه في عالم غير عالمه، وأن الزمن تغير، وأن لا ثقة في مكانها، حتى بنفَسك.

أين المفر؟ وفي كل حدب أحمق، وفي كل زاوية يربض شيطان يترنم بالأخلاق..

أين المفر؟؟

ألم تكن أرض الله واسعة فهاجرت فيها؟ أم تراني هجرت أرض الخير ونشدته عند من لاخير فيه؟

من تأتمن على غبائك؟ وعند من تجد مرآتك؟

لا تزال تسكنني فكرة رهيبة، مخيفة.. هل تراني أخطأت في الحكم على كل من نبذت؟ هل من اشتريت عداوته كان الأولى بالمحاباة والتفهم أم أن جزيرة بعيدة في عمق المحيط هي الملاذ؟

سامح الله أمي...

لم تخبرني أن عالمنا غير العالم الذي أخبرتني عنه، والذي جعلتني أؤمن يه في صفحات صفراء بالية من الكتب التي جعلتني أعشق... لم تجبرني ساعة الحق على الحق، بل علمتني أني على حق مهما اخترت.. ويا ليتها ما فعلت.
هذا أنا اليوم يا أمي... أحكم على نفسي أني أخطأت.. فاجلديني بصمت.



الحمد

الحمد لمن قدّر وأمر، والحمد لمن رزق وغمر. والحمد لمن أعطاني الفكر، لأسرح فيه بالنظر، في الظاهر وما استتر، لأشقى وأعتبر، لعل النعيم على مرمى حجر، فسأتتبع الأثر، وأعلم خفيّ الخبر، إن شاء قبل نهاية العمر، فالآنُ قد حضر، والشيب قد انتشر، والشباب قد اندثر، والرجوع قد تعذر، إلا للأمام مع العمر، وكذا الأمر مع كل البشر، فهل من مُذّكِر؟

Comments

Popular posts from this blog

Brief me, pleaaaaase!

"I need a break brief" "Brief" is becoming a word to kill for nowadays. I just have to say " give me a brief " to trigger a raffle of weird looks from my interlocutor, and sometimes it goes like " but we're discussing now! "... well, I can let go and get an affirmation that our discussion IS the brief. But truth doesn't take time to show up: " why don't we do a promotion or offer something? ", or " can we say some other message? ", or some other person comes and tell the team they were wrong in their approach, and that a brief would be re-written...! I would have loved to be the cool dude who helps you leave on time, but it's not up to me.. when it starts becoming a habit, and the cool dude is not that cool if one day he calls halt to the bad habit, then you should know it's for the sake of the client, the agency, the artists, the creatives, and the industry centennial learnings. Some might d...

"Out of sight"

I've just watched the best 5-minute anim and it made my day, a Japanese one about a blind little girl who lost her dog guide for a while. It inspired me one thought: "we become creative only after closing our eyes to the outer noise and focus on our internal voice. Only then we can isolate a different perspective of the world, not like everybody else sees it, not like we are told to see it, but how we imagin it. How would things look if we see them through only our creative mind? Anything could happen then, and that's the impossible and magic world of creativity. Then only, "Resist the usual" or "be different" or "think different", will make sense. I would say that it's good to plan our plan according to real data, in a real world and to fit perfectly in the tangible and conventional world, but we should incept this plan creatively, in a borderless world of no limits. How many times you were faced with an "a...

I Want to Eat!

Act 1 He walks in a fine-diner... an usher rushes to greet him and managed to get him a very good table. He doesn't make him wait long before he brought him a few handouts, covering the restaurant's long heritage and how it's digging its roots deep in history to the last century. He takes care of thanking him of finding this cozy place that actually belongs to a well-known chain of restaurants offering all sorts of international food with local touch in each location. " We know customers come to us with high expectations, and I am positive you won't be disappointed, Sir! " The customer is very happy and overwhelmed with how the whole floor is at his service, and he fought the idea that is silently popping in his mind " they would add a hefty service charge on the bill! ". While he is absorbed in that thought, the usher calls the floor manager, who invites the guest to another table, even better than the first one. " You are ou...